الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،وبعد:
فمع انتشار هذا الوباء الخطير (فيروس كورونا)، الذي عَمَّ في غضون أيام قلائل أركان هذه المعمورة، فبلغت القلوب الحناجر من سرعة انتشاره، وكثرة الوفيات من جرائه، فرأت غالب المجامع العلمية، ومجالس الإفتاء وكبار العلماء في جميع القطر الإسلامي تعليق صلاة الجمعة والجماعة مع الإبقاء على رفع الأذان، سدا لذريعة انتقال العدوى، عبر الاحتكاك الذي يقع في المساجد، وقد وفقوا في ذلك أيما توفيق.
فتعالت صيحات الغيورين من طلبة العلم والدعاة والخطباء بتذكير المسلمين بضرورة التوبة والأوبة إلى الله، فجزاهم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء وأوفره، ورفع الناس أكف الضراعة إلى الرحمن الرحيم.
لكن بالغ البعض منهم فزعم أن الله غاضب علينا معاشر المسلمين، بل طردنا من بيوته الرحيمُ !!
وهذا لعمري خطأ شنيع، وتجاوز من العبد لحده وقدره، فمن هذا الذي يقطع بما في نفس الرحمن، الذي سبقت رحمته غضبه، وقد قال عيسى عليه السلام : تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلۡغُيُوبِ [المائدة: 116]
نعم نذكر أنفسنا وإخواننا والمسلمين بخطر المعاصي وضرورة التوبة والاستغفار والرجوع إلى الله، وهذا واجب، وهو من التواصلي بالحق، وهذا ما قام به أكثر أهل الخير والصلاح، وهذا شيء.
لكن أن يقطع أحدنا بأن هذا غضب من الله على عباده، وأن الله طرد عباده من بيوته ؟!
من يقوى على هذا الزعم وهذه الدعوى ومن هذا الذي تحمله قدماه بين يدي الباري سبحانه.؟!
هل يغضب الرحيم الرحمن على الركع السجود؟! هل يطرد الله من بيوته المشائين إليه في الظلم إلى المساجد ؟! هل يحرم الله من بيوته الذاكرين والمستغفرين والمسبحين والداعين ؟! هل يرد الله دارسي كتابه الحكيم، وحفاظ القرآن الكريم؟! هل يغلق سبحانه بابه في وجوه التائبين المنيبين؟!
أليس هناك احتمال أن المساجد – لما كانت سنة الله الكونية في انتقال العدوى بالاختلاط والزحام – وكانت المساجد هي من أكبر المواضع التي يمكن أن ينتقل فيها المرض بالمشافهة والملامسة والقرب والاحتكاك والسجود على مواضع من السجاد يسجد عليها المصابون بالمرض خمس مرات في خمس صلوات.
فلم لا تكون الحكمة من إلهام أهل العلم والفضل بفتوى تعليق الصلاة في المساجد أن الله أراد أن يحمي عباده المصلين الركع السجود، حبا لهم ورحمة بهم ولطفا بهم، فرفع عنهم صلاة الجماعة والجمعة حماية لهم؟!
بل ممكن ووارد جدا…
إلا إذا كنا نعتقد أنه بلغ بنا الصلاح والتقوى إلى درجة أن يخرق الله لنا جميعا – لا أفرادا – السنن الكونية، فلا تلحقنا عدوى مع انتشار الوباء ونحن في المساجد، كما لم تحرق إبراهيم عليه السلام النار ؟!
وإذا كان هذا الاحتمال ورادا، فكيف يمكن لمؤمن أن يقطع بالضد، وينشر الضد بين الناس، الذي قد يقنط عباده من رحمته، ومن يجرؤ على ذلك؟!.
نعم أيها الأحبة…
الصلاة في المساجد نعمة من نعم الله تبارك وتعالى على عباده، يغفل عن استشعارها كثير منا، وقد تصبح عند كثير منا أقرب للعادة، والله المستعان، وإن الابتلاء بإيقاف الصلوات فيها لتذكير بفضلها علينا معاشر المسلمين، فهي بمثابة الماء للسمك، بل الروح للجسد.
لكن أن يصل الحد ببعضنا إلى أن يقطع بأن غلق المساجد لمصلحة دفع الوباء هو غضب من الله على عباده، وطرد من الله لعباده من بيوته، فهذا من التألي على الله، عنْ جُنْدَب رضي الله عنهٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَ: “أَنَّ رَجُلًا قَالَ : وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ. وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ ؛ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَك“. أَوْ كَمَا قَالَ. رواه مسلم.
نسأل الله أن يردنا إليه ردا جميلا، أن يفقهنا في ديننا، وأن لا يعاملنا بما نحن أهله، وأن يعاملنا بما هو أهله، هُوَ أَهۡلُ ٱلتَّقۡوَىٰ وَأَهۡلُ ٱلۡمَغۡفِرَةِ [المدثر: 56]
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه:
الأخ الفاضل الحبيب د. حسان شعبان
مكة المكرمة حرسها الله
وجميع بلاد المسلمين.