خلاصة المسألة: لا يوجد دليل شرعي على إباحة التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو بغيره من المخلوقات، وكل ما ورد في ذلك إما ضعيف أو موضوع أو صحيح ولكن معناه مخالف.
النبي صلى الله عليها وسلم أعظم المخلوقات جاهًا عند الله عز وجل، ومع ذلك …
لا يُشرع سؤال الله تعالى بجاهه لعدة أمور:
أولأ: العبادات مبناها على التوقيف، ومعناه: لا بد للعبادة من مُستند شرعي صحيح من كتاب الله تعالى أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والعبادة لها شرطين أساسيين، هما:
أ: الإخلاص لله تعالى.
ب: أن تكون موافقة للسنة الصحيحة الثابتة.
فالإخلاص وحده غير مشروع لأن النية الصالحة لا تصحح العمل الفاسد وفيه مشابهة للنصارى، والقيام بالأعمال المشروعة بغير إخلاص فيه مشابهة لليهود وهو من تقية المنافقين!
والحديث الوارد في السؤال بالجاه بلفظه لا وجود له في كتب الحديث المعتمدة!
ثانيا: ما لم يرد في الشرع أنه عبادة فإن فعله بدعة محدثة، والبدعة المحدثة في العبادة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ثالثا: ورد في الشرع المطهر سؤال الله تعالى بأسمائه وصفاته، والعمل الصالح، وإباحة سؤال الله بدعاء الرجل الصالح، ولم يرد السؤال بالجاه، مما يعني أن السؤال بالجاه ليس سببا لإجابة الدعاء.
والجاه هو المنزلة والمكانة، فلو قلت اسألك يا الله بمنزلة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عندك أن تغفر لي فإن هذه بدعة في الدين.
وهو سؤال الله بما ليس عمل لك وهذا عقلا لا يجوز، فهل من المعقول أن تقول أسألك يا الله لأن جاري يقوم الليل كل يوم أن تغفر لي؟
لكن يشرع أن تسأل الله بعملك أنت من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته والعمل الصالح من صلاة وصيام وصدقة.
الاستدلال بحديث الأعمى
ورد في صحيح البخاري حديثًا يعتمد عليه بعض الناس في إباحة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن رجلا من المسلمين أعمى شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذهاب بصره بأن طلب منه أن يدعو الله تعالى لعلمه أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أقرب الناس من ربه سبحانه وتعالى.
فخيَّره النبي صلى الله عليه وسلم بين الصبر على الابتلاء ورغَّبه بالعاقبة الحسنة وبين الدعاء له فاختار الدعاء.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم له فشفي من سقمه وفي هذا دلالة واضحة على نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبالفعل ذكر العلماء هذا الحديث في دلائل النبوة.
ولكن الشاهد من الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد الأعمى إلى إحسان الوضوء ثم الصلاة ركعتين وعلَّمه أن يدعو بدعاءٍ استشفوا منه دلالة على إباحة التوسل بالجاه.
وهذا الدعاء هو: اللهم إني أسألك ، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، يا محمد إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه ، فتقضى لي ، اللهم فشفّعه فيَّ وشفّعني فيه.
وفي الإجابة يقول العلماء أن هذا الحديث نعم هو في التوسل، ولكن ما معنى التوسل المراد بهذا الحديث؟
مصطلح التوسل أيها الأحبة هو من الكلمات المجملة التي تحمل أكثر من معنى، وعليه لا يجوز أن نحمل لفظة شرعية وردت في الكتاب والسنة على غير المعنى المراد شرعًا أو على ما لم يرد شرعًا أنه من معانيها المباحة.
فالتوسل في الكتاب والسنة وفي عرف الصحابة يدور حول ثلاثة أمور:
الأمر الأول: سؤال الله بأسمائه وصفاته، قال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180].
الأمر الثاني: دعاء الله تعالى بالأعمال الصالحة للشخص الداعي، قال تعالى: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْـزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 53].
فتوسلوا بإيمانهم وعملهم الصالح، وهو من أعظم ما يتوسل به المؤمن من الإيمان بالله ورسوله.
الأمر الثالث: وهو التوسل بدعاء الرجل الصالح.
وهذا الحديث هو من هذا الباب، ففي الحديث أن الرجل طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ولم يطلب منه أن يعلمه دعاءً يدعو به.
والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر الصحابي هذا أنه سيدعو له، وأمره أن يصلي ركعتين ويدعو هو أيضًا وعلمه هذا الدعاء.
فبعد أن دعا الرسول صلى الله عليه وسلم دعا هذا الأعمى فقال: اللهم إني أتوجه إليك بدعاء نبيك محمد أن تقضي حاجتي.
ودليل ذلك نهاية الحديث وهي قوله: اللهم فشفعه في وشفعني فيه.
ومعنى هذه العبارة: اللهم اقبل دعاءه في واقبل دعائي فيه.
فهذا الصحابي يتوسل إلى الله بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاء الرسول فيه فيشفى ويقبل دعائه بالرسول فيقبل دعوته.
ولكن المتوسلون اعتقدوا أن قوله [بنبيك] [أتوجه بك] دلالة على التوجه بالذات وليس بالدعاء، فاعتقدوا أن الصحابي هذا توجه بذات النبي وجاهه، وهذا غلط لأمور:
أولًا: الحديث واضح بطلب الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم، وواضح إصراره على الدعاء وواضح أن الرسول دعا له، فلو كان معنى التوجه به هو التوجه بذاته لما كان هناك حاجة لهذا الترتيب في الدعاء ولكان علمه دعاء التوجه بذاته وجاهه ولم يدع له، كما يحصل الآن مع المتوسلين بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: لم يستعمل الصحابة هذا الحديث لا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعد موته بمعنى التوجه بذاته وجاهه وهو من أعظم الوسائل لإجابة الدعاء لو كان كذلك، بدلالة حال المتوسلين بذاته اليوم.
ثالثًا: في السنة الشريفة شرح وتوضيح لمعنى السؤال به صلى الله عليه وسلم.
ففي حياته وحينما كان يخطب جاءه رجل وطلب منه الدعاء بنزول المطر فدعا له، وبعد موته صلى الله عليه وسلم وعندما أصاب المسلمين ما أصابهم من القحط جاء عمر ابن الخطاب إلى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه دعاء الله تعالى بأن يغيثهم الله تعالى بالمطر – وهو كما قلنا القسم الثالث من التوسل – فدعا العباس رضي الله عنه وأرضاه فسقوا وفي أثناء ذلك قال عمر: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا.
فبعد أن دعا العباس رضي الله عنه دعا عمر رضي الله عنه فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليه بدعاء نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي فتسقينا والآن بعد موته نتوسل إليك بدعاء عمه العباس رضي الله عنه اللهم فاسقنا.
إذا فتوسل الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم كان توسلهم بدعائه لأنه هنا في هذا الحديث شبَّه توسله بالعباس رضي الله عنه بتوسله بالنبي صلى الله عليه وسلم.
كيف توسل بالعباس؟ طلب منه الدعاء لله تعالى.
وهنا يحاول بعضهم تبرير فعل عمر رضي الله عنه بقولهم: في هذا الحديث دلالة على جواز التوسل بالمفضول – العباس – مع وجود الفاضل – النبي صلى الله عليه وسلم –
نقول: لا، ليس كذلك.
أولا: القوم في حال يرثى لها وليس المقام مقام تعليم والإنسان في هذه الحال التي هم فيها يتمسك بأي شيء يراه أمامه للنجاة فكيف يتركون التوسل بجاه بالنبي صلى الله عليه وسلم – لو كان جائزا – ويتوسلون بمن دونه؟!
ثانيًا: لو قلنا أن في هذا دليل على جواز التوسل بالمفضول فإن معنى التوسل بهذا الحديث واضح وهو طلب الدعاء وليس ما ذهبتم إليه من التوسل بجاهه.
إذ التوسل بالجاه لا يستلزم وجود العباس أصلا ولا سؤاله ولا الكلام معه بل موته وحياته سواء.
الأمر الآخر: يتكلم العلماء عن الإستخارة فيقولون أن الإستخارة يجب أن يقوم بها المستخير ولا يجب أن يطلب من أحد آخر أن يفعلها عنه، لماذا؟
لأن طالب الإستخارة هو المحتاج إليها فيكون قلبه متعلق بالله أكثر من يطلبها منه عادة.
وفي مقام الدعاء لله تعالى يجب غلى الداعي أن يدعو بما هو مالكه وليس بما يملكه غيره.
يعني تخيل أنا طالب بالمدرسة وأقول للمدير، يا سعادة المدير بما أن فلان الفلاني طالب نجيب وعلاماته عالية جدا أرجو منك أن تعطيني يوم الإثنين عطلة لأن عندي عمل مهم!
بل تقول له: أنا طالب مهذب ونجيب وعلاماتي عالية وأنت تعلم أنني محب للعلم وراغب فيه، أرجو منك أن تعطيني يوم الإثنين عطلة لأن عندي عمل مهم.
هذا أدعى للإجابة لأنك توسلت بسيرتك الحسنة عنده.
فكذلك من يتوسل إلى الله تعالى بإيمانه بأسمائه وصفاته أو من يتوسل لله تعالى بعمله الصالح كما فعل أهل الغار الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة وكما فعل أصحاب عيسى رضي الله عنه: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْـزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 53].