العقيدة الإسلاميةمسائل الإيمان
أول واجب على المكلف عند المبتدعة
كتاب: شبهات المبتدعة في توحيد العبادة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، أما بعد:
البحث الثاني*
أول واجب على المكلف عند المبتدعة
لقد سبق الكلام على منهج أهل السنة في هذه المسألة وأنه طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي أوضحها القرآن والسنة غاية الإيضاح والبيان.
ولقد خالف في ذلك أهل الكلام من المعتزلة (1) والأشاعرة (2) ومن وافقهم، فقالوا: إن أول واجب على المكلف هو المعرفة -أي معرفة الله والإقرار بوجوده وأنه خالق العالم-.
ومنهم من قال: إن أول واجب هو المنظر المفضي إلى تلك المعرفة.
ومنهم من قال: إن أول واجب هو إرادة ذلك النظر وهو أول جزء منه.
وذهب أبو هاشم الجبائي إلى أن أول واجب هو الشك في الله تعالى إذ أنه متقدم على النظر، وهو الدافع إليه (3).
هذه جملة أقوال المتكلمين في هذه المسألة، وإن كان الأخير مردودا عندهم لفظًا ومعنى، كما قال الجويني عند ذكره لتلك الأقوال: (واعلموا أن الكلام في هذا الفصل يؤول إلى العبارات، وفيها التنازع ولا يتأكد في المعاني إلّا الذي قاله أبو هاشم فهو مردود لفظًا ومعنى) (4).
وقد يكون الخلاف بين هذه الأقوال خلافًا لفظيًا، إذ المقصود الأساس لتلك الأقوال جميعها هو إيجاب معرفة الله تعالى على المكلف، فمن جعل أول الواجبات المعرفة أراد به وجوب المقاصد، ومن قال بالنظر أو قصد النظر فمراده وجوب الوسائل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهؤلاء يقولون في أول واجب على العبد هل هو النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله أو المعرفة؟
قد تنازعوا في ذلك على قولين ذكرهما هؤلاء الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم، والنزاع لفظي، فإن النظر واجب وجوب الوسيلة من باب مالا يتم الواجب إلا به، والمعرفة واجبة وجوب المقاصد، فأول واجب وجوب الوسائل هو النظر، وأول واجب وجوب المقاصد هو المعرفة.
ومن هؤلاء من يقول: أول واجب هو القصد إلى النظر، وهو أيضًا نزاع لفظي، فإن العمل الاختياري مطلقا مشروط بالإرادة) (5).
إذًا فالأصل في هذه الأقوال أن أول الواجبات هو معرفة وجود الله تعالى وخلقه للعالم، ثم صار الكلام على الطريق الموصل إلى تلك المعرفة: هل هو متوقف على النظر فيكون أول واجب أو قد يكون بغيره.
وما من شك أن معرفة الله تعالى من الأصول التي لا ينازع فيها مسلم، وهي سابقة لكل أصل عقدي، إذ لا يتأتى إيمان مع عدم الإقرار بوجود الله تعالى.
ولكن هذه المعرفة مما استقر وجوده في الفطر، فقد فطر الله تعالى العباد عليها كما قال سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 30]
وكما جاء في الحديث القدسي: (وإنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ) (6).
فتلك المعرفة المقتضية لعبادة الله وحده مستقرة في الفطر، والخروج عنها هو الطارىء على الناس كما قال ﷺ: (ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ) (7).
ومن هنا يتضح منه أهل السنة في قولهم: إن أول واجب على المكلف هو عبادة الله تعالى. مع أن العبادة لابد أن تبنى على معرفة، فتلك المعرفة مستقرة في النفوس، والخروج عنها طارىء شاذ في أحوال الناس، فبنوا حكمهم في أول الواجبات على الأصل الذي عليه غالب الناس.
أما من تبدلت فطرته فأنكر وجود الله تعالى وخلقه لهذا الكون، فهذا يخاطب ابتداء بتلك المعرفة بالطرق الشرعية التي تذكره وتعيده إلى أصله الذي فطر عليه، ومع هذا يقرر بمقتضى ذلك ولازمه وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.
أما المتكلمون فبنوا كلامهم في أول الواجبات على عدم حصول تلك المعرفة ابتداء، فسعوا في تحصيلها وهي حاصلة، وتحصيل الحاصل ممتنع، ثم إنهم مع هذا يقفون غالبا عند حدود تلك المعرفة دون تقرير الغاية العظمى منها وهي عبادة الله تعالى وحده، وهذا من أعظم المآخذ عليهم، إذ مجرد المعرفة ليس مما يتمدح به، فأعدى أعداء الله -وهو إبليس- حاصلة هذه المعرفة عنده، فلم تكسبه إيمانا ينجيه من عذاب الله تعالى، بل ازداد من الله إلا بعدًا.
إذًا: فأهل السنة لم ينكروا على أهل الإسلام القول بأن أول واجب هو المعرفة تقليلًا لشأن تلك المعرفة، بل لأن هذه المعرفة حاصلة مستقرة في النفوس، والخروج عنها طارىء شاذ، وأن المقصد الأعظم هو مقتضاها الذي تدل عليه، وهو عبادة الله تعالى وجد لا شريك له الذي هو أول دعوة الرسل ومفتاحها، وعليه فهو أول الواجبات على المكلف.
تحميل كتاب “شبهات المبتدعة في توحيد العبادة” التعريف بموضوع الكتاب من موقع الدرر السنية.
_________________
* صـ 81-85.
(1) المعتزلة سموا بذلك لاعتزال واصل بن عطاء وهو رأس المعتزلة مجلس الحسن البصري رحمه الله، وذلك لقول واصل بأن صاحب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر. ويجمع المعتزلة القول بخلق القرآن ونفي الصفات وإنكار الرؤية في الآخرة وأن العباد يخلقون أفعالهم، ولهذه الأخيرة يسمون العدلية؛ حيث يجعلون ذلك الاعتقاد هو مقتضى العدل.
أنظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (235/1)، الفرق بين الفرق للبغدادي صـ 20-21، 114-116، الملل والنحل للشهرستاني (1/ 43-46) المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق.
(2) نسبة إلى أبي الحسن الأشعري ولكن في مذهبه الثاني الذي رجع إليه عن الاعتزال، ومن جملة أقوالهم إثبات الصفات السبع التي يسمونها العقلية، وينفون غيرها وخاصة الصفات الفعلية، وينفون على الذات، وهم مرجئة في الإيمان. وهذا المذهب التزمه من اتبع أبا الحسن في أقواله في المرحلة الثانية، ولكن أبا الحسن نفسه ترك هذا المذهب وصرح بانتهاجه مذهب السلف.
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (6/ 52-55)، مذهب الإسلاميين لبدوي (1/ 487)، موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود صـ 329 وما بعدها.
(3) في أقوال المتكلمين في مسألة أول واجب انظر -مثلا-: الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به الباقلاني صـ 22، الشامل في أصول الدين للجويني صـ 120-121، أصول الدين للبغدادي صـ 210-211، أبكار الأفكار للآمدي (1/ 170-172) المواقف للإيجي صـ 28، تحفة المريد على جوهرة التوحيد للباجوري صـ 16-17ـ فتح الباري (13/ 361) المدخل إلى دراسة علم الكلام لحسن بن محمود الشافعي صـ 140، موقف ابن تيمية من الأشاعرة ل د. عبد الرحمن المحمود (3/ 934).
(4) الشامل في أصول الدين صـ 121-122.
(5) درء تعارض العقل والنقل: (7/ 353).
(6) رواه مسلم في كتابة الجنة ونعيمها -باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة- رقم 2865.
(7) رواه البخاري في الجنائز -باب إذا أسلم الصبي ومات على يصلى عليه؟ -رقم 1358، ومسلم في القدر -باب معنى كل مولود يولد على الفطرة – رقم 2658.